ثالثاً/ تقرير البنك الدولي لعام 2000م:
أعدّ هذا التقرير فريق العمل المشترك بين البنك الدولي و حكومة السودان. أشار التقرير إلي ضرورة الإجماع حول رؤية محددة عن البنية المستقبلية و التشغيلية لمشروع الجزيرة.و قد ورد في التقرير ما يلي/
” إن الرؤية لمشروع الجزيرة في هذا التقرير هي أنه سوف يصبح مركزاً لنشاط إقتصادي و إجتماعي متزايد حيث يكون القطاع الخاص قد قام بالإستثمار و إنشاء مؤسسات لمقابلة متطلبات خدمات الإنتاج الزراعي للمزارعين. و تشمل الرؤية في نهاية المطاف إنشاء سلطة مستقلة ذات إدارة خاصة تقوم بتشغيل المشروع بربح. و سوف تقوم سلطة المشروع بجعل المسئوليات عن بعض النشاطات الإدارية لا مركزية تتولاها مجموعات المزارعين ذات الكفاءة. أما مسئوليتها (بالتعاون مع الوزارات المختصة مثل وزارة الري و الموارد المائية، وزارة الزراعة و الغابات و هيئة البحوث الزراعية) فهي أن تقوم بتنظيم عملية تقديم مجموعة أساسية من الخدمات المؤسسية مثل الري، الإرشاد الزراعي و توفير و نشر المعلومات عن السوق للمزارعين علي أسس بيئية مستدامة. أخيراً فان سلطة المشروع بالتعاون مع حكومة الولاية سوف تضمن تقديم خدمات إجتماعية أفضل لكافة أعضاء مجتمع الجزيرة.”
و قد جاء في التقرير أيضاً ” أن النتيجة الرئيسية التي توصل إليها التقرير هي أن مشاكل المشروع يمكن معالجتها بنجاح و لهذا فإن الرؤية التي وصفت أعلاه يمكن تحقيقها عبر شراكة بين القطاع العام و القطاع الخاص”. و في توضيح أمر هذه الشراكة ورد في التقرير،” أن مشروع الجزيرة كمؤسسة عامة يستطيع زيادة فعاليته بدرجة كبيرة إذا ركز علي بناء و صيانة البنيات التحتية الرئيسية، التخصيص العام ( بالتشاور مع مجموعات من المزارعين) للمنطقة المروية لدورات المحاصيل المختلفة، توزيع مياه الري عن طريق القنوات الرئيسية لمقابلة الطلب علي المياه، و تقديم مجموعة خدمات أساسية مساندة للمزارعين مثل الإرشاد الزراعي، و معلومات عن السوق للسلع المنتجة في مشروع الجزيرة.
إن القطاع الخاص (و بالتحديد مجموعات المزارعين و رجال الاعمال الآخرين) يمكنه المساهمة في الكفاءة الإجمالية و عدالة المشروع و ذلك بقيامهم بتحمل المسئوليةالأساسية (عن طريق مجموعات مستخدمي المياه) عن قرارات مجموعات المزارعين حول دورات المحاصيل المفضلة، توزيع المياه عن طريق الترع الصغيرة لإشباع مطالب مجموعات المزارعين لإستخدام أمثل للمياه و إسترداد فعال لتكاليف الري و كذلك تقديم خدمات مثل الحراثة و مبيعات السماد.”
و لتنفيذ تلك الإستراتيجية أشار التقرير إلي ضرورة إتخاذ جملة خطوات تتعلق بقيادة العمل في المشروع، العون الإداري، توفير الكميات الكبيرة من المياه، تحفيز القطاع الخاص، حرية إختيار المزارعين للمحاصيل، تسويق الأقطان و كذلك إتاحة الفرصة للمزارعين في بيع و شراء حقوق الملكية داخل المشروع. و في شأن التغييرات المشار إليها أعلاه يقول التقرير،” هي تغييرات مؤسسية في المدى المتوسط و الطويل الأجل بالرغم من أن التنفيذ يمكن ان يبدأ نسبياً بسرعة. رغم كل ذلك فإنه من الضروري تحسين فعالية و كفاءة المشروع باسرع ما يمكن. و توصل الفريق المشترك إلي أن ذلك يمكن فعله بتطبيق مجموعة من الأفعال القصيرة الأجل لتحسين الحافز للمزارعين و إدارة مشروع الجزيرة مما يؤدي إلي تحسن يكاد يكون فورياً في الأداء التقني و تدفقات الدخل. و هناك دعم قوي لهذه الأعمال بين إتحاد مزارعي الجزيرة و المناقل، إدارة مشروع الجزيرة و الإداريين من الحكومة.”
و من توصيات التقرير/
” تحديد سياسة الحكومة: 1- عملية إتخاذ القرارات و التشاور: نظراً للمشاركة الكبيرة لموظفي الخدمة المدنية في إعداد هذا التقرير يوصي بأن تصدر الحكومة قراراً حول مبادئ و أسس سياسة الإصلاح المؤسسي في مشروع الجزيرة لكي تحرك عملية التشاور و التخطيط لتطبيق الإصلاحات. يوصي الفريق المشترك بأن عملية الإصلاح السياسي و المؤسسي بمشروع الجزيرة يجب أن تتضمن مشاركة مكثفة من أصحاب المصلحة بما في ذلك حكومة الولاية.
2- توصية أساسية:
يوصي التقرير بأنه في المدى القصير و المتوسط يجب أن تستمر الحكومة في الإتجاه في السنوات الأخيرة نحو تحويل العديد من مهامها للقطاع الخاص. يجب إقامة شراكة تكون فيها إدارة مشروع الجزيرة مسئولة عن بناء و صيانة منشئات البنية التحتية الرئيسية و أن يسمح لروابط مستخدمي المياه بأن تكون مسئولةً عن إدارة المياه في الترع الصغيرة و تقديم خدمات معالجة الإنتاج. و في المدى البعيد يجب أن يصبح مشروع الجزيرة هيئة مستقلة لا تربطها صلات رسمية بالحكومة.”
و يرى التقرير أن هناك خطوات لابد من إتخاذها في المستقبل المنظور/
” اولاً: قرار من الحكومة حول الرؤية المتوسطة و الأبعد مدى و التي سوف تصبح سياسة الحكومة.
ثانياً: قرار من الحكومة حول النتائج التي توصل إليها الفريق المشترك ، حول التغيير المؤسسي لتحقيق تلك الرؤية و حول أي موجهات ترغب في وضعها حول مسائل مثل السياسة العامة و توقيت و تسلسل عملية التغيير المؤسسي.
ثالثاًً: أن تعين الحكومة هيئة تكون مسئولة عن تنفيذ هذه السياسة. توصل الفريق المشترك إلي أن مجلس ادارة مشروع الجزيرة هو الهيئة المناسبة و يجب أن يساعده فريق عون إداري. رابعاً: أن تؤكد الحكومة بأن اللجنة الوزارية الموجودة لتنفيذ مشاريع الري سوف تكلف بمسئولية مراجعة تقدم تنفيذ قرارات الحكومة الخاصة بسياستها تجاه مشروع الجزيرة كجزء من إلتزامات اللجنة الوزارية الدائمة.
خامساً: يجب أن تخصص الحكومة اموالا ً لتمويل أعمال الهيئة المكلفة بتطبيق قرارات الحكومة و إستكشاف مصادر تمويل للدراسة التفصيلية عن تكلفة و فوائد تاهيل البنية التحتية لمشروع الجزيرة.
سادساً: أخيراً يجب أن يكون هناك نشر واسع لقرارات الحكومة حول سياسة المشروع بين المزارعين و أيضاً مجتمع الجزيرة الواسع و إنشاء إطار للتشاور المستمر حول الخطط المستقبلية للتغييرات المؤسسية و الإدارية في مشروع الجزيرة مع أصحاب المصالح و يشمل ذلك حكومة ولاية الجزيرة.”
و قدم التقرير العديد من التوصيات حول العديد من جوانب البنية التحتية للمشروع.
في ختام هذا الجزء من الندوة لابد من الإشارة إلي حقيقة أنه أصبح واضحاً من محاولات التصدي لمشاكل مشروع الجزيرة و من خلال تكوين اللجان و تقديم الدراسات المتعددة أن قضايا هذا المشروع كبيرة و معقدة، و أنها تحتاج إلي جهدٍ أكبر و تبني سياساتٍ معقولة تؤدي في مداها البعيد إلي إستقرار المشروع و إستقرار العلاقة بين كل أطرافه، زراعاً ، إدارةً و حكومةً. و في ضوء ذلك سيكون تناولنا لقانون العام 2005م في الجزء القادم.
الجزء الخامــس
قانـون مشروع الجزيرة للعام 2005م
الملامح الاساسية للقانون/
يعتبر صدور قانون مشروع الجزيرة فى يوليو عام 2005 من أهم التطورات التي شهدها مشروع الجزيرة منذ انشائه، ان لم نقل أنه أهم تطورٍٍٍٍٍٍٍ فى تاريخ المشروع. فقد أدخل هذا القانون تغييرات جذرية على وضعية المشروع و على نمطى الانتاج و الادارة بالمشروع. الغى هذا قانون و حلّ محل قانون 1984م، كما الغى ايضاً قانون اراضي الجزيرة لعام 1927م.
يُعرِف القانون فى المادة 4 مشروع الجزيرة بانه مشروعٌ اقتصادي و اجتماعي ذو نشاطٍ متنوع، يتمتع برعاية قومية للتنمية، وله شخصية اعتبارية مستقلة ادارياً و مالياً و فنياً و صفة تعاقبية مستديمة وخاتم عام وله حق التقاضى باسمه. كما أكّد القانون ملكية الدولة ـ ممثلة في وزارة المالية و الاقتصاد الوطنى ـ لأصول المشروع. و حدد تكوين المشروع من (1) المزارعين (2) الحكومة ممثلة فى وحداتها التى تقدم الخدمات الأساسية ومن ضمنها الرى والسلع العامة التى تشمل البحوث و وقاية النباتات والتقانة و الارشاد و الدراسات الفنية و التدريب اضافةًًً الى الادارة الاشرافية و التخطيط، و (3) القطاع الخاص بما يقدمه من خدمات تجارية مساعدة.
سنّ القانون عدداً من المبادئ الاساسية المهمة، يمكن تلخيصها في الآتي/
المبدأ الاول
هو مبدأ حرية اختيار المحاصيل الذى تضمنته المادة (5) الفقرة (هـ) من القانون، حيث اوردت،”كفالة حق المزارعين في ادارة شأنهم الانتاجي و الاقتصادي بحرية كاملة في اطار المحددات الفنية و استخدام التقانة للارتقاء بالانتاجية و تعظيم الربحية منها”. هذا النص يحتوي علي اهمية خاصة . فهو يعني ببساطة الآتي/
اولاً: فك الارتباط التاريخي بين مشروع الجزيرة و انتاج محصول القطن. ثانيا:ً انهاء الحلقة الاساسية في علاقات الانتاج داخل المشروع بين المزارعين و ادارة مشروع الجزيرة والتى تمثلت فى زراعة القطن و الاشراف عليه و تمويله. و هذا بالطبع تحولٌ كبير و جذري، و هو بلا شك اكبر تحول يمر به المشروع منذ انشائه قبل ثمانين عاماً. و رغم ان القانون كان ان صدر في العام 2005م، إلا ان تطبيق هذا المبدأ لم يتم حتى موسم 2007 ـ 2008م، كما سياتي ذلك لاحقاً في هذا المقال.
كان هذا التحول مثاراً للجدل و الخلاف حيث انتقده البعض، بل و رفضوه، باعتبار انه ينهي الدور التاريخي للمشروع في زراعة القطن، هذا من الجانب الاول، و يلغي، من الجانب الثاني، دور الدولة في تحديد اولوياتها بالنسبة للمحاصيل التي سوف تتم زراعتها، اما من الجانب الثالث فإنهم يرون ان هناك مخاطرة في زراعة محاصيل قد يكون المشروع غير مهيأ لها. واما علي صعيد المرحبين به فإنهم اولاً يرون ان المستأجر في المشروع ولأول مرة يتحول الي مزارع له حرية اتخاذ القرار فيما يريد زراعته و تحمل تبعات ذلك كاملةً. ثانياً، إنه ينهي الامتياز القسري لمحصول القطن، اما ثالثاً فإنه يضع حداً للنظام السلطوي لادارة المشروع بواسطة مجلس الادارة الذي درج علي تحديد المحاصيل و تمويل القطن و الاشراف العام عليه.
المبدأ الثاني
الذي اقره القانون في المادة (16)، هو تمليك الاراضي للمزارعين. و في هذا الشأن وردت ثلاث معالجات كما يبين من الفقرة (2)، و هي/
“أ. المزارعون أصحاب الملك الحر الذين خُصصت لهم حواشات بموجب تلك الملكية تسجل لهم تلك الحواشات ملكية عين بسجلات الأراضي.
ب. الملاك الذين لم ُتخصص لهم حواشات عند التفريقة والذين لهم فوائض أرض وفق الفقرة (أ) تؤول أراضيهم للمشروع مع تعويضهم تعويضاً عادلاً.
ج. يملّك بقية المزارعين في المشروع من غير أصحاب الملك (الحواشات) التي بحوزتهم ملكية منفعة لمدة تسعة وتسعين عاماً.”
واضحٌ ان هذه المادة قد انهت الايجار القسري للاراضي الملك الحر ، و قامت بتمليك الاراضي بالمشروع للمزارعين إما ملكية عين او ملكية منفعة. كما و انها قضت بنزع الاراضي من غير المزارعين و تعويضهم تعويضاً عادلاً. هذا هو الآخر تحولٌ جذري ينهي الاجارة القسرية التي استمرت ثمانين عاماً، غير انه ما زال تطبيق هذه المادة بعيد المنال و ذلك لمطالبة المالكين بمبالغ ضخمة تمثل كل من اولاً الايجار منذ عام1972م و ثانياً التعويض عن اراضيهم. و في صدد الايفاء بدفع هذه المبالغ ، ترى وزارة المالية انه يجب علي إدارة مشروع الجزيرة و المزارعين القيام بذلك. و لكن الواقع ان ادارة المشروع تغالب صعوبات حقيقية في دفع استحقاقات العاملين، كما و ان المزارعين ليسوا في وضعٍ يسمح لهم بدفع هذه المبالغ.
المبدأ الثالث
لابد من الاشارة هنا الي امرين الاول هو ان تطبيق هذا المبدأ لم يتم بعد لان نقل ملكية الارض للمزارعين لم يتم بعد هو الاخر، اما الامر الثاني فهو ان ملكية الحواشة قد تمّ تقييدها بشروطٍ محددة فى المادة 16 من القانون نفسه تلخصت في استغلال الحواشة لاغراض الزراعة فقط، عدم تفتيت الملكية و اخيراً في حالة بيع الحواشة او التنازل عنها يتم تطبيق احكام الملكية بالشفعة.
المبدأ الرابع
وهو انشاء روابط مستخدمي المياه لادارة و صيانة وتشغيل قنوات الحقل بالمشروع. و هذا المبدأ اقرته المادة (19) حيث نصت، “(أ) تُنشأ روابط لمستخدمي المياه تحت إشراف المجلس على مستوى المشروع تمثل الإدارة الذاتية للمزارعين ذات شخصية اعتبارية وتسلَّم لها مهام حقيقية في إدارة استخدامات المياه بالتعاقد مع وزارة الري والموارد المائية في مجال الإمداد المائي والاستشارات الفنية.”
“(ب) تنشئ وزارة الري والموارد المائية إدارة خاصة لري مشروع الجزيرة.”
تعرضت فكرة روابط مستخدمي المياه الي نقدٍ عنيف، و من ضمن ما قُدم في ذلك النقد اولاً ، انها فكرة غريبة علي السودان و لم تطبق من قبل فى أى مشروع زراعى. ثانياً، انها فكرة تخص و ترتبط بالدول التي تعاني من شح المياه و مصادرها. ثالثاً، ان تطبيقها يلغي دور وزارة الرى و مجلس الادارة و يحيله الي المزارعين. و رابعاً، إن المزارعين غير مؤهلين للقيام بهذا الدور. و من ضمن النقد أن هذه الروابط تخلق وسيطاً جديداً بالاضافة الي وزارة الري و مجلس الادارة، و أنها ستؤدى ً الي فصل الشبكة الصغرى عن الشبكة الكبرى.
حريٌّ بالاشارة، ان فكرة روابط او اتحادات مستخدمي المياه ترجع في بروزها الي سبعينات القرن الماضي و قد تمّ تطبيقها في عدة اقطار من العالم. تعتبر الدراسة التي قدمها دكتور سلمان محمد احمد سلمان ـ ” الاطار القانوني لاتحادات مستخدمي المياه”ـ و التي قام البنك الدولي بنشرها في عدة لغات – واحدةً من الدراسات المقارنة القليلة التي تناولت تلك الفكرة. فالبرغم من ان الدراسة كان ان عالجت الاطار القانوني لروابط و اتحادات مستخدمي المياه، الا انها و من ضمن ما خلصت له هو ان مشاركة المزارعين عبر اتحادات مستخدمي المياه المنتخبة ديمقراطياً و المسجلة كشخصية اعتبارية قانونية في ادارة و تشغيل و صيانة اجزاء من انظمة الري، قد ادت فعلياً الي الآتي/
1- الاستخدام المرشد للمياه و الذي ادى و بالنتيجة الي وفورات فيها.
2- ازدياد امكانية الصيانة الجيدة لمرافق الري.
3- تقليل تكلفة التشغيل و الصيانة بصورةٍ كبيرة.
4- وضع الحد لمركزية تقديم الخدمات.
5- تمليك المزارعين و تمكينهم من صلاحيات ادارة شئونهم.
اشار مقدم الندوة الي نتائج دراسة اخري قام بنشرها في العام الماضي تحت عنوان ” الاطار القانونى لادارة الموارد المائية”. تبين من نتائج تلك الدراسة ان هناك اربعة عشر دولة من ضمن الستة عشر دولة التي شملتها الدراسة قد قامت بتبني فكرة “اتحادات مستخدمي المياه” و طبقتها بصورة مكثفة و تأكد نجاحها في تحقيق اهدافها، وأن الاصلاح المؤسسى فى قطاع الرى فى معظم أنحاء العالم قد تبنى فكرة انشاء روابط مستخدمى المياه. بل ان بعض الدول قد شكلت اتحادات لهذه الروابط وأناطت بها مسئولية تشغيل و صيانة القنوات الكبرى و الرئيسية، وأنه فى دولة شيلى قامت هذه الروابط بشراء القنوات والخزانات من الدولة وتقوم بادارتها كمالك وليس فقط تحت عقد ادارة.
نصّ قانون مشروع الجزيرة لعام 2005م في المادة 28.(4) علي ان ” يتم تسليم قنوات الحقل لروابط مستخدمي المياه بعد تأهيلها”. ولكن، و بما ان التاهيل لم يتم بعد فإن انشاء الروابط و تسليم قنوات الحقل لها لم يتم بعد هو الآخر.
المبدأ الخامس:
تقليص دور مجلس الادارة: تعرض القانون لتشكيل و تحديد اختصاصات و سلطات مجلس ادارة مشروع الجزيرة. ويتكون المجلس من رئيس يعينه رئيس الجمهورية وأربعة عشر عضواً. و يُمثل المزارعون فى المجلس بنسبة لا تقل عن 40% من عضوية المجلس. و يشمل المجلس أيضاً ممثّل للعاملين بالمشروع و ممثلين للوزارات المختصة (تشمل المالية، الزراعة، الرى، التقانة، بنك السودان، و وزارة الزراعة باقليم الجزيرة.) قلص القانون دور المجلس تقليصاً واضحا, و تتضمن المادة 9ً اختصاصات مجلس الادارة والتى تتلخص فى:
(أ) وضع الأسس العلمية للدراسات البحثية والاقتصادية والاجتماعية اللازمة لحسن استخدام موارد المشروع لتحقيق أعلى معدلات ربحية ممكنة.
(ب) وضع السياسات التشجيعية العادلة لتنفيذ سياسات الدولة الإستراتيجية للمحاصيل الزراعية.
(ج) إدارة وتطوير الخدمات الأساسية المتمثلة في البحوث ووقاية النباتات والتقانة والإرشاد وإكثار البذور والتدريب والطرق الداخلية.
(د) إرساء نظام تكافلي يسمح بتعويض المزارع المجد حال تعرضه للآفات والكوارث الطبيعية.
(ه) وضع المحددات الفنية للتركيبة المحصولية والدورة الزراعية.
(و) اعتماد الخطط والبرامج المرفوعة من المدير العام (و الذى يقوم بتعيينه المجلس).
(ز) تحديد فئة خدماته التي يؤديها بالتنسيق والاتفاق مع الجهات المختصة ويتم تحصيلها من المزارعين بواسطة روابط مستخدمي المياه.
يتضح من هذا العرض أن دور المجلس قد تقّلص و ينحصر فى البحوث و الاستشارات و الدراسات و وضع السياسات الزراعية، و أن عليه أن يتحصل على فئة خدماته من المزارعين. كما تجدر الاشارة أيضاً الى أن الغاء نظام زراعة القطن القسرية أدىً الي التقليل من اعتمادات المجلس المالية بسبب تناقص دخل المجلس من عائدات تمويل محصول القطن و المدخلات الزراعية.
هذه هى المبادئ الخمسة الأساسية التى يرتكزعليها القانون. و لابد من الاشارة هنا الي انه من بين هذه المبادئ لم يتم غير تطبيق مبدأ حرية اختيار المحاصيل، و الذي طُبِق في هذا الموسم 2007م/2008م. وبمقارنة بينه و الموسم السابق 2006م/2007م نجد ان المساحة المزروعة قطناً قد تقلصت الي حوالى 90 الف فدان هذا الموسم بدلاً عن حوالى 250,000 فدان في الموسم السابق، بينما زادت المساحة المزروعة قمحاً لتصل الي حوالى 427,000 فدان و قد كانت حوالى 294,000 فدان في الموسم الماضي. و هذا الابتعاد الكبير عن زراعة القطن لا بد أن يكون مؤشراً على تجربة المزارعين مع محصول القطن من النواحى الاقتصادية و الفنية و الادارية و غيرها من المناحى.
كذلك تم اعادة تشكيل مجلس الادارة حسب مقتضيات المادة 6 من القانون. و يُلاحظ أن وزير الزراعة لم يعد رئيساً للمجلس وهذا تأكيدٌ للوضع الذى ساد فى السنوات الخمس الماضية وألغى رئاسة وزير الزراعة للمجلس والتى كانت قد تضمنتها القوانين السابقة للمشروع.
تبقى مسألة ادارة المياه و قضية الأراضى و كذلك المشاكل و العقبات التى تقف فى وجه تطبيق و تفعيل القانون، وهذا ما سنتعرض له فى الحلقة القادمة والاخيرة من هذه السلسلة من المقالات.
الجزء السادس – الخاتمة
اوضحت الحلقات الخمس الماضيه أن مشروع الجزيرة مرّ خلال سنواته الثمانين الماضيه بعدّة مراحل. وقد انتظمت كل مرحلةٍ جوانبُ من التطورات و المتغيرات. و يمكن تقسيم هذه المراحل الي اربعة:
أولاً: مرحلة نشأة المشروع و تطوره – 1925 – 1950
تم خلال هذه المرحلة وضع القواعد الآساسية التي تنظم العمل بالمشروع و تقنن علاقات الانتاج به. و هذه العلاقات تميزت، فيما تميزت به، بالخلط بين نظامٍ رأسماليٍ و آخر اشتراكيٍ. برزالنظام الرأسمالي في تركيبة الشركة الزراعية السودانية وطريقة ادارتها للمشروع. فالشركة شركة مساهمة مسجلة فى الآسواق المالية فى لندن و لها آلاف المساهمين من مؤسسات وأفراد يملكون فيها أسهماً و يتوقعون عائداً وفيراً منها كل عام. لذا كان هم الشركة الأساسي تحقيق أكبر قدر من الأرباح ارضاءً لهؤلاء الساهمين. و قد كان هذا هو السبب الأساسي الذى جعل الشركة تحمّل الزراع تكلفة الانتاج بدلاّ من تحملها بواسطة الشركاء الثلاثة – الحكومة و الشركة و الزراع ــ، و تبذل قصارى جهدها فى تقليل تكلفة الانتاج و تعزيز أرباحها.
من الناحية الأخرى كان نظام العلاقات بين الزراع أنفسهم نظاماّ اشتراكياّ تكافلياً يتحمّل فيه الزراع كمجموعةّ تكلفة زراعة القطن و توزّع الأرباح عليهم بعد خصم التكلفة الاجمالية، و ليس الفردية، لزراعته. و لكن تحت هذا النظام استوى المزارع الدؤوب الجاد بنظيره الذى لا يملك نفس المقومات. اذن فقد كان اطار علاقات الانتاج اطاراً رأسمالياً و كان المضمون اشتراكياً تكافلياً. تميزت العلاقة أيضاّ ببعدٍ انضباطىٍ سلطوىٍ اشبه ما يكون بالنظام العسكرى. فالأوامر تصدر من موظفى الشركة للزراع في كل صغيرة و كبيرة تخص زراعة القطن بدءً باعداد الأرض، و استلام التقاوى و السماد، و متى تتم الزراعة و متى تتم ازالة الحشائش و كذلك أوقات الرى و الرش و استعمال السماد و المبيدات و متى يتم جنى القطن و تسليمه للشركة و استلام الأرباح، بعد خصم التكلفة. و ليس هنالك اشراكٌ للزراع فى تفاصيل أىٍٍٍ من هذه العمليات، وليس لديهم بديلٌ غير اطاعة هذه الأوامر. و لتأكيد هذا النمط السلطوى فقد أعطت اتفاقية الاجارة بين الشركة و المستأجر الحق للشركة فى القيام بأىٍ من هذه الأعمال اذا فشل أىٌ من الزراع فى القيام بها وتحميله التكلفة المالية كاملةّ، و قد إنعكست ممارسة ذلك الحق في تطبيق ما عُرِف بين المزارعين بنظام “الطُلبة”. بعد أعوام قليلة من ادخال هذا النظام السلطوى لزراعة القطن بالمشروع بدأت بعض الثقوب تظهر فيه – ماذا يحدث اذا كان العائد للزراع ضعيفاّ أو لم يكن هناك عائد بسبب قلة الانتاج أو ضعف الأسعار؟ جاءت الاجابة فى تليين ذلك النظام قليلاً باعطاء الزراع حق زراعة الذرة واللوبية فى مساحة صغيرة اخرى، و يكون الناتج كلّه حقاً للزراع، و لكن بدون تمويل من الشركة. فهذان المحصولان قُصِد منهما امتصاص عدم رضاء الزراع وايضاً تحسين التربة. و قد قامت الشركة أيضاّ فى أواخر الأربعينات بانشاء صندوق الاحتياطى لمساعدة الزراع فى السنوات العجاف. غير هذا فقد ظل النظام السلطوى لعلاقات الانتاج كما هو طوال هذه الفترة.
امتد هذا النظام السلطوى الي ادارة الأراضى أيضاّ. فملاك الأراضى الذين أُعطوا أراضيهم أو جزءاً منها كحواشات اُعطيت لهم هذه الأراضى تحت عقد اجارة نزع منهم كل حقوق الملكية، وأصبح هؤلاء الملاك أجراء لأرضهم تحدد لهم الشركة ما يجب أن يفعلوه فى أرضٍ هى ملكهم. و قد كان الغرض وراء هذا الاجراء الغريب وضع أراضى المشروع كلها من الناحية القانونية و العملية تحت ادارة و سيطرة الشركة و تجريد الملاك من اى حقوقٍ تتصل بملكيتهم لهذه الأراضى. فالأجرة التى يتقاضاها هؤلاء الملاك أسقطت حقوقهم فى الأرض و فرضت عليهم اطاعة أوامر الجهة التى تدفع لهم الأجرة. ترسّخ هذا النظام السلطوى خلال ثلاثينيات و أربعينيات القرن الماضى و أصبح نظام العمل المعروف و المألوف بالمشروع حتى بعد أن انتهى عقد الشراكة و آلت ادارة المشروع لمجلس الادارة السوداني. و كما ذكرنا فقد لعب العمل النقابي دوراً كبيراً في مشروع الجزيرة نتج عنه زيادة نسبة ارباح المزارعين، و لكنه لم يُحدث تغييراً ذا شأن فى علاقات الانتاج.
ثانياّ: مرحلة التوسع فى المشروع – 1950- 1975
انتهى عقد الادارة بين شركة السودان الزراعية و حكومة العهد الثنائى عام 1950 وانتقلت الادارة فى ذلك العام الى مجلس ادارة مشروع الجزيرة. وقد صدر فى ذلك العام قانون مشروع الجزيرة لعام 1950 والذى كان أول قانون ينظم العمل بصورة متكاملة فى المشروع.
تسمى بعض الكتب والتقارير هذه النقلة بانها “تأميم للمشروع”، و هذه التسمية ليست دقيقة لأن الأراضى و الخزان و القنوات بالمشروع لم تكن ملكاً للشركة حتى تؤمم، بل كانت ملكاً للحكومة، تديرها الشركة بمقتضى عقد ادارة انتهى ذاك العام ولم يتم تجديده. نتج عن هذا التغيير زيادة نسبة أرباح المزارعين و الحكومة بعد أن قلت نسبة أرباح مجلس ادارة المشروع. و زادت نسبة أرباح المزارعين مرّةً ثانية بعد ثورة اكتوبر ولكن هذه المرة على حساب نصيب الحكومة. عدا هذا فقد استمرت علاقات الانتاج على ما كانت عليه ابان فترة ادارة الشركة للمشروع. كانت مساحة المشروع قد وصلت الى حوالى مليون فدان عام 1950، و كانت الدراسات الخاصة بامتداد المناقل قد قاربت الاكتمال. و فى عام 1954 بدأت المفاوضات مع مصر بغرض السماح للسودان ببناء خزان الروصيرص لرى امتداد المناقل. و رغم أنه تمّ الاتفاق بين السودان و مصر على بناء خزانى الروصيرص و أسوان، الاّ ان الخلافات حول حصة السودان ظلت عالقة و لم تحسم الاّ بعد عام من وصول الفريق عبود الى السلطة وتوقيع اتفاقية مياه النيل عام 1959. مع اكتمال خزان الروصيرص بدأ التوسع فى امتداد المناقل و بلغت مساحة المشروع اثر ذلك مليون و ثمانمائة الف فدان وتوسعت البنية التحتية من قنوات رى وطرق ومبانى و ارتفع عدد موظفى المشروع بصورةٍ كبيرة. و صدر قانون مشروع الجزيرة لعام 1960 لينظم هذا التوسع. و بذاك التوسع أصبح مشروع الجزيرة من أكبر المشاريع فى العالم تحت ادارة واحدة. و كما ذكرنا من قبل فالمشروع ليس أكبر مشروعٍ فى العالم كما يعتقد الكثيرون. فهناك عدة مشاريع فى العالم أكبرمنه مساحةً.
ثالثاّ: مرحلة التدهور و البحث عن حلول – 1975-2005
مع هذا التوسع بدأت مشاكل المشروع فى البروز الى السطح. فقد بدأت البنية التحتية التى تمّ إنشاؤها قبل أكثر من أربعين عاماّ فى التآكل والتدهور، و بدأت أسعار القطن العالمية فى التدنى و ارتفعت تكلفة الانتاج بصورة حادة بسبب ارتفاع أسعار الوقود. وزاد الوضع سوءاّ بسبب التقلب فى السياسات الاقتصادية و الزراعية فى السودان فى السبعينات.
برزت أيضاً فى هذه الفترة مشكلة الأراضى الملك الحر. فقد انتهى عقد الايجار عام 1967 و طالب بعض الملاك باعادة اراضيهم اليهم بينما طالب آخرون برفع قيمة الايجار ليواكب الغلاء و تدهور الجنيه السودانى، و فى بداية السبعينات توقف الملاك عن استلام الايجار حيث أنه لم تعد له قيمة.
امتد التدهور ليشمل خزانى سنار والوصيرص. فبسبب كميات الطمى التى يأتى بها النيل الأزرق من الهضبة الاثيوبية فقد خزان سنار جزءاً كبيراً من امكانياته التخزينية وبدأت هذه المشاكل نفسها تعترى خزان الروصيرص و قنوات الرى بالمشروع، ولم تعد مياه الرى تصل بعض الحواشات بسبب تراكم الطمى و الأعشاب فى هذه القنوات.
تكونت فى هذه الفترة عُدة لجان، الواحدة بعد الأخرى، لدراسة هذه المشاكل ومحاولة ايجاد الحلول لها. و قد كان من ابرز التوصيات توصية الغاء نظام الحساب الجماعى واستبداله بالحساب الفردى و التى طُبقت عام 1981. أثار ذلك التغيير جدلاً حاداً فى أوساط المزارعين والمهتمين بأمر المشروع، بين مؤيدٍ يرى فى ذلك التغييرأملاً فى حلحلة مشاكل المشروع، و معارضٍ يرى فيه طعنةً لنظام التكافل الاجتماعى الذى ساد المشروع لأكثر من نصف قرن من الزمان.
و على الرغم من أن البنك الدولى والصندوق العربى للتنمية الاقتصادية والاجتماعية و مانحين آخرين قد مولوا اعادة تأهيل المشروع بمبلغ فاق المائتى مليون دولار، الا أن هذا الجهد لم يكن كافياً لأن يعيد للمشروع فاعليته بسب عدم مصاحبته بالاصلاح المؤسسى. و لم يغير صدور قانون مشروع الجزيرة لعام 1984 شيئأ فى أمر هذا التدهور على الرغم من زيادة تمثيل المزارعين فى مجلس الادارة.
رابعا:مرحلة قانون 2005 وآثاره و مستقبل المشروع
اتسمت تقارير اللجان المختلفة التى كُونت للنظر فى أمر مشروع الجزيرة بالاختلافات فى مرتكزاتها و تحليلاتها لمشاكل المشروع، وعليه فقد اختلفت وتضاربت توصياتها. غير أن عددا من هذه اللجان اتفقت على ضرورة اعادة النظر فى مسألة الشراكة وأيضا على دور الزراع فى علاقات الانتاج خصوصا مسالة التركيبة المحصولية. فى هذا الأثناء كانت مشاكل زراعة القطن آخذةً فى الازدياد و أسعاره العالمية آخذة فى التدهور.
عليه لم يكن أمراً مستغرباً بالنسبة للذين تابعوا تطورات و متغيرات المشروع أن يقوم قانون 2005 بادخال و تقنين مبدأ حرية اختيار المحاصيل. هذا التغيير الجذرى لم ينه فقط الارتباط التاريخى بين المشروع و محصول القطن و انما أنهى أيضاً ما تبقى من محاور علاقات الانتاج و قّلص بصورةٍ كبيرة دور مجلس ادارة مشروع الجزيرة فيما يختص بتمويل القطن و الاشراف على زراعته. طُبق مبدأ حرية اختيار المحاصيل عام 2007 رغم صدور القانون فى عام 2005، و نتج عنه انخفاضٌ حادٌ فى المساحات المزروعة قطناً و زيادةٌ ملحوظة فى المساحات المزروعة قمحاً و ذرةً، ولكن كان هناك انخفاض فى المساحة الكلية المزروعة بالمشروع. فقد تمّ فى موسم 2007 -2008 زراعة حوالى مليون ومائتى الف فدان فقط من مساحة المشروع الكليّة البالغة مليونين و مائتي الف فدان (أى أن المساحةالمزروعة بلغت حوالى 55% فقط من مساحة المشروع). يُلاحظ أيضا الانخفاض في انتاجية الفدان بالنسبة للقمح مقارنة بالموسم السابق من قرابة الطن للفدان فى موسم 2006 – 2007 الى حوالى ثلاثة أرباع الطن هذا الموسم. و يعود هذا الانخفاض فى رأى مقدم الندوة الى عوامل عدة تتلخص فى التمويل و التسويق و الضرائب و نظام الرى.
(*) بالنسبة للتمويل فإنّه بالرغم من وجود البنك الزراعى و بنك المزارع فى أجزاء كبيرة من المشروع الا أن التمويل لمزارعى المشروع ما زال ضعيفا. و مع التوقف عن زراعة القطن فسوف يتوقف التمويل من ادارة المشروع الذى كان مرتبطاً أساساً بالقطن. عليه فإنّ مسألة التمويل تحتاج لحلول سريعة و فعّالة. و يُؤمّل أن يلعب البنك السودانى الأردنى المزمع انشاؤه فى ولاية الجزيرة دوراً قيادياً فى التمويل بأن يكون بنكا تنمويا و ليس تجاريا.
(*) بالنسبة للتسويق فقد كانت شركة أقطان السودان تقوم بتسويق القطن و يقوم المزارع بتسويق المحاصيل الأخرى. و الآن مع حرية اختيار المحاصيل فلا بد من ايجاد سبلٍ لمساعدة المزارعين فى تسويق هذه المحاصيل حتى يحصد المزارع ثمار جهده بدل أن تذهب هذه الثمار الى الوسطاء سواءً كانوا بنوكاً أو شركاتٍ أو أفراد.
(*) بالنسبة للضرائب فقد بلغت ذروتها عام 1996م عندما قاربت نصف انتاج المزارع. و على الرغم من الغاء الكثير من الضرائب المركزية، الاّّ أن الضرائب و الأتاوات و الجبايات الولائية و المحلية و كذلك رسوم الجمارك المركزية على بعض مدخلات و آليات الانتاج عالية جداً مما جعل المزارعين يضجون بالشكوى منها . و قد أثيرت هذه المسألة عدة مرات فى المجلس الوطنى واللجان المختلفة التى أُوكل اليها أمر تطوير ونهضة الزراعة، وعليه لا بد من ايجاد حلول فورية و فعالة لها. لقد تم اعداد مجموعة من الدراسات حول مواضيع التمويل و التسويق و الضرائب و تم تقديم بعض هذه الدراسات خلال ورشتى العمل الخاصتين بمشروع الجزيرة اللتين عُقِدتا فى العامين 2004م و 2005م. و تشمل هذه الدراسات مجموعة من المقترحات البناءة و التى يمكن الاستفادة منها فى هذه المجالات.
(*) بالنسبة لنظام الرى فقد أشار قانون 2005م الى أن تسليم قنوات الحقل لروابط مستخدمى المياه يتم بعد تاهيل هذه القنوات، و هذا اعتراف واضح من القانون (والمسؤولين) بالوضع غير الفعال لهذه القنوات. ان قنوات الرى هى شريان المشروع، كما يجب الاشارة الى أن المشروع يستهلك سنويا حوالى 8 مليار متر مكعب من المياه من حصة السودان البالغة 18,5 مليار تحت اتفاقية مياه النيل لعام 1959م (أى أن المشروع يستهلك حوالى 40% من حصةالسودان). و لكن الاستعمال غير المرشد و غير الكفء لهذه الكمية الكبيرة من المياه بسبب تدهور القنوات و مشاكل ادارة المياه سيظل عقبةً كبرى ليس فقط للمشروع و انما للسودان نفسه فى نقاشه و مفاوضاته مع الدول المشاطئة الأخرى لنهر النيل. و كما هو معروف فان هذه الدول بدأت تطالب بحقوقها فى مياه النيل.
من ناحيةٍ اخرى فقد أشار مقدم الندوة د. سلمان الى الدور الفعّال الذى تقوم به هذه الروابط فى دولٍ كثيرة من العالم فى ادارة مياه الرى، و أوضح أنه فى بعض الدول تدير اتحادات روابط مستخدمى المياه القنوات الكبرى و الرئيسية (وليس الصغرى فقط)، و تعرض كذلك للوفورات التى نتجت فى المياه و فى تكلفة الصيانة والتشغيل إثر تولى روابط مستخدمى المياه لهذه المهام. و لابد من التأكيد أن هذه الروابط ليست سوى جمعيات تعاونية ينتخبها أعضاؤها بطريقة ديمقراطية ويحاسبونها وفق اللوائح المنظمة للرابطة. و لابد كذلك من الاشارة الى أن ادارة قنوات الرى بواسطة هذه الروابط تحكمها اتفاقية مع وزارة الرى و أن هذه الروابط ملزمةٌ بتطبيق بنود الاتفاقية.
(*)لابد من الاشارة هنا الى مشكلة الأراضى الملك الحر فى المشروع، و ايجاد حلٍ لها وفق قانون 2005م الذى اعترف بالملكية و سنّ نزْع هذه الاراضى مقابل التعويض العادل. ان توصيات لجنة 2003م تُعرض حلاً وسطاً بين مطالب الملاك الشاسعة و تجاهل السلطات لهذه المشكلة و يمكن الرجوع الي هذه التوصيات و الاهتداء بها. و لابد لذلك الحل ان يكون حلاً توفيقياً يأخذ في الاعتبار، أولاً، ان هذه الاراضي ملكٌ لاصحابها و أنهم لم يتلقوا عنها إيجاراً لاكثر من 35 سنةً، ثم ثانياً،و بالمقابل لابد من من الاخذ في الاعتبار ان تلك الارض كانت ارضاً تروى بالامطار ، و ان بعض اصحابها مُنِحوا حواشات و ان آخرين مُنِحوا إيجاراً لمدة 45 سنةً. فهاتان النقطتان لابد من إعتبارهما في أي سعيٍ يُرجى نجاحه في الوصول الي اي صيغة توفيقية تخص معضلة الاراضي في مشروع الجزيرة.
و نختتم هذه المقالات من حيث بدأناها. إنّ العالم يواجه اليوم أزمة غذاء حادة تتمثل فى الارتفاع الجنونى لاسعار السلع الأساسية بسب قلة العرض. وقد تأثرت حتى الآن أكثر من 22 دولةً بهذه الأزمة، و يتعرض أكثر من مائة مليون نسمة فى هذه الدول للجوع بسبب نقص الغذاء. و قد بلغت هذه الأزمة مداها عندما أوشك محصول الأرز على الاختفاء من الأسواق العالمية بسبب توقف الدول المنتجة (تحديدا تايلاند و الهند و الصين و فيتنام) عن تصديره. وقد ارتفع سعر الطن من الأرز خلال العام الماضى من 300 دولار الى حوالى 1000 دولار. أما بالنسبة للقمح فقد قلت الكميات المنتجة فى استراليا و الصين بسبب الجفاف و توقفت الأرجنتين و أوكرانيا عن تصدير القمح لفترة من الوقت وعاودت التصدير لاحقاً و لكن بكميات محدودة. نتج عن هذا ان تضاعف سعر الطن من القمح خلال العام الماضي من 200 دولار الى حوالى 400 دولار. و قد حدث نفس الشىء بالنسبة للذرة الشامية و فول الصويا و انعكست هذه الزيادات في الاسعار كذلك على السلع الغذائية الاخرى.
لقد أوضحت الأمم المتحدة الشهر الماضى أن 29 دولةً قد أوقفت تماماً أو قللت بقدرٍ كبير تصدير المواد الغذائية خارج حدودها أو فرضت عليها رسوم جمركية عالية أو قيود أخرى مثل تحديد الكميات التى يمكن تصديرها. حاولت بعض الدول مثل اليابان و سويسرا اللجوء الى منظمة التجارة العالمية لارغام هذه الدول على وقف هذه الاجراءات الحمائية و لكن اتضح أن معاهدة المنظمة لا تعطيها الحق فى التدخل فى مثل هذه الاجراءات، وأن كل ما تفرضه المعاهدة على هذه الدول هو أن تقوم تلك الدول باخطار المنظمة نيتها في اتخاذ هذه الاجراءات لا أكثر. و كان قد اتضح من قبل محدودية امكانية المنظمة فى التدخل لوقف ذلك الدعم الضخم الذى تقدمه الدول الصناعية لمزارعيها والذى أفقد مزارعى الدول النامية القدرة على التنافس.
لقد بدأت الدول المختلفة تتعامل مع هذه الأزمة بشتى السبل. فقد قررت الصين، بسبب الجفاف والنمو السكانى و ازدياد الطلب على المواد الغذائية بازدياد الطبقة الوسطى، اتخاذ كل الاجراءات المطلوبة لرفع معدّل انتاجية الفدان الواحد من طنٍ واحد للقمح لتصل الآن الى قرابة الطن و نصف الطن من القمح للفدان، بينما اتخذت الكثير من الدول مثل الهند و المكسيك و الفلبين قرارات متعددة لترشيد استهلاك المياه فى مجال الرى. و تسارعت وتيرة الاصلاح المؤسسى لقطاعى الزراعة و الرى فى عددٍ كبيرٍ من دول العالم. و بسب شح المياه فى كثير من هذه الدول فقد تركزت الجهود على تحسين أداء الأراضى المعمّرة أصلاً بدلاً من استصلاح أراضى جديدة تحتاج الى استثماراتٍ ضخمةٍ و مياه جديدة قد لا تكون متوفرةً أصلاً.
ان مشروع الجزيرة بتجربته التاريخية الطويلة و الثرية، ومساحته الواسعة، و امكانياته المتاحة الهائلة يستطيع ببعض الجهد و الإرادة السياسية أن يوفر للسودان احتياجاته الغذائية من القمح و أن يوفر لولاية الجزيرة احتياجاتها من الذرة، علي ان يكون ذلك وفقاً لمبدأ حرية اختيار المحاصيل للمزارع و الذي كفله قانون 2005م. فاذا استطعنا أن نرفع انتاجية الفدان الى 1,2 طن (و هذا متوسط انتاج الفدان فى معظم الدول) ونجحنا فى زراعة ثلثى المشروع قمحًا فان هذا سيوفر احتياج السودان كله من القمح كاملاً، بينما يمكن ان يوفر الثلث المتبقى من أراضى المشروع احتياجات ولاية الجزيرة من الذرة والمواد الغذائية الأخرى.
ولكن هذا الحلم لن يتحقق إلا باتباع السياسات السليمة فيما يتعلق بادارة المياه (بعد تأهيل قنوات الرى تأهيلا كاملا) و الضرائب و التمويل والتسويق، و توضيح ما تبقى من علاقات الانتاج بين المزارعين و ادارة مشروع الجزيرة. وقتها سيجد المزارع ما يكفى من الحوافز لكى يضع جلّ طاقته فى الانتاج و يساهم مساهمةً فعّالةً فى حلحلة مسألة الأمن الغذائى و التى هى بلا شك هاجس كل الشعب السودانى